بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين. والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين. نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فيسر إخوانكم بمدينة الجديدة بالمملكة المغربية أن يستقبلوا هذا الاتصال ضمن سلسلة الاتصالات الهاتفية والتي يكون ضيفها في هذه الليلة فضيلة الشيخ أبي سعيدٍ يعقوب البنا حفظه الله من دولة الإمارات العربية المتحدة حرسها الله وسائر بلاد المسلمين.
والآن مع الدرس الرابع لشرح متن القواعد الأربع للإمام المجدد محمد بن عبد الوهاب رحمه الله.
قال المصنف رحمه الله القاعدة الثانية أنهم يقولون ما دعوناهم وتوجهنا إليهم إلا لطلب القربة والشفاعة، فدليل القربة قوله تعالى: (والذين اتخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى إن الله يحكم بينهم فيما هم فيه يختلفون إن الله لا يهدي من هو كاذبٌ كفار)، ودليل الشفاعة قوله تعالى: (ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله).
والشفاعة شفاعتان شفاعةٌ منفية وشفاعة مثبتة.
فالشفاعة المنفية ما كانت تطلب من غير الله فيما لا يقدر عليه إلا الله، والدليل قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا أنفقوا مما رزقناكم. من قبل أن يأتي يومٌ لا بيعٌ فيه ولا خلةٌ ولا شفاعة. والكافرون هم الظالمون).
والشفاعة المثبتة هي التي تطلب من الله والشافع مكرمٌ بالشفاعة، والمشفوع له من رضي الله قوله وعمله بعد الإذن كما قال تعالى: (من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه).
التعليق:
الحمد لله رب العالمين وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله على نبينا وعلى آله وصحبه وسلم، أما بعد:
فقد ذكر المصنف رحمه الله في هذه القاعدة أن الكفار يقولون ما دعوناهم وتوجهنا إليهم إلا لطلب القربة والشفاعة، فهذه القاعدة قاعدة عظيمة ومهمة وهي مكملة للقاعدة السابقة، وقد عرفنا من القاعدة الأولى أن الكفار كانوا يقرون أن الله هو الذي خلقهم ورزقهم ودبر شؤونهم، لكن قد يسأل السائل إذاً لماذا صرف الكفار العبادة لغير الله مع إقرارهم بأن الله هو خالقهم ورازقهم ومالكهم؟! ولماذا عبدوا هذه المعبودات مع معرفتهم أنها لا تنفع ولا تضر؟!.
هذا السؤال الذي يطرح نفسه لماذا عبدوها؟! ما السبب الذي جعلهم يصرفوا العبادة لهذه المعبودات مع علمهم أنها لا تنفع ولا تضر ولا تخلق ولا ترزق؟!.
هذا سؤالٌ مهم للغاية ينبغي لكل مسلم ومسلمة معرفة جواب هذا السؤال، وسنعرف بإذن الله الجواب من خلال هذه القاعدة.
قال المصنف رحمه الله في هذه القاعدة أنهم يقولون ما دعوناهم وتوجهنا إليهم إلا لطلب القربة والشفاعة.
أنهم يقولون أي أن الكفار يقرون بألسنتهم ويعتقدون بقلوبهم.
ما دعوناهم وتوجهنا إليهم أي ما عبدناهم وما توجهنا إليهم بالدعاء والعبادة.
قال: إلا لطلب القربة والشفاعة، أي لأجل هذين الأمرين توجهوا إلى هذه المعبودات بالدعاء والعبادة؛ إذاً هذا هو سبب دعائهم وعبادتهم:
أولاً: طلب القربة.
ثانياً: طلب الشفاعة.
أولاً: طلب القربة، أي يطلبون القربى من الله عن طريق هذه المعبودات بصرف العبادة لها.
ثانياً: طلب الشفاعة، أي يطلبون من هذه المعبودات أن تشفع لهم عند الله فلهذا تقربوا إليها بالعبادة.
وذكر المصنف رحمه الله الدليل على القربة قوله تعالى (والذين اتخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى) أي أن الكفار الذين اتخذوا من دون الله أولياء بصرف العبادة لهم ما فعلوا ذلك إلا لأجل التقرب إلى الله، ولهذا قالوا: ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى أي ما نعبد هذه المعبودات من أجل أنها تنفع وتضر وتخلق وترزق. لا ولكن نعبدهم لأجل أنها تقربنا إلى الله تعالى، هذه هي حجتهم في صرف العبادة لغير الله، فأبطل الله تعالى حجتهم بقوله: (إن الله يحكم بينهم فيما هم فيه يختلفون إن الله لا يهدي من هو كاذبٌ كفار) فقوله (من هو كاذب) أي أن الكفار كاذبون في دعواهم، أي لما قالوا إن هذه المعبودات تقربنا إلى الله وتشفع لنا عنده، فكذّب الله تعالى قولهم ودعواهم، وحكم عليهم بالكفر بقوله (كفار) أي لما صرفوا العبادات لغيره كفروا؛ لأن فعلهم هذا شركٌ وكفر، فكفرهم الله تعالى بذلك، فالتقرب من الله تعالى لا يكون بالشرك والكفر، وإنما يكون بالطاعة وبإخلاص العبادة له جل وعلا.
ثم ذكر المصنف رحمه الله الدليل على الشفاعة قوله تعالى (ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله)، أي أن الكفار يصرفون العبادة لهذه المعبودات التي لا تنفع ولا تضر، ويزعمون أنها ستشفع لهم عند الله عز وجل في قضاء حوائجهم وجلب النفع لهم ودفع المضرة عنهم.
وهكذا عباد القبور يقولون لو دعونا الله فلن يقبل الله دعاءنا لتقصيرنا، أما الأولياء فلهم مكانة ومنزلة عند الله تعالى، فإذا طلبنا منهم فسيشفعون لنا عند الله، أي أنهم سيطلبون لنا عند الله قضاء الحوائج فجعلوا بينهم وبين الله تعالى وسطاء وشفعاء، ففعلهم هذا يعد شركاً، كفعل الكفار لما اتخذوا المعبودات شفعاء فصرفوا لها العبادة لتشفع لهم عند الله، وربنا جل وعلا لم يجعل بينه وبين عباده وسطاء وشفعاء في العبادة وفي الدعاء لا، يقول الله تعالى: (وقال ربكم ادعوني أستجب لكم) فلم يجعل الله بينه وبين عباده وسطاء في الدعاء وإنما تدعوه مباشرةً؛ لأن الله قريب كما قال: (وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان) تأمل هذه الآية؛ لم يقل ربنا جل وعلا للنبي ﷺ في هذه الآية قل لما سأله الناس عنه لم يقل له قل؛ لأن الدعاء والعبادة ليس فيه وسطاء وشفعاء، بخلاف الآيات الأخرى يقول الله تعالى لنبيه ﷺ قل لما يسألونه عن أمور أشكلت عليهم كما في قوله تعالى: (ويسألونك عن المحيض)، قال (قل هو أذىً فاعتزلوا النساء في المحيض)، وقوله: (ويسألونك ماذا أحلّ لهم قل أحلّ لكم الطيبات) فكل الآيات التي فيها يسألونك قال الله فيها للنبي ﷺ قل؛ لأن ﷺ واسطة بين الله وعباده في التبليغ، لكن في العبادة والدعاء ليس هناك واسطة بين الله تعالى وبين عباده، ولهذا لم يقل ربنا لنبيه ﷺ في آية الدعاء قل كما في الآيات التي فيها يسألونك، وإنما قال: (وإذا سألك عبادي عني فإني قريب) لم يقل له قل؛ لأنه لا واسطة بين الله وبين خلقه في الدعاء والعبادة.
وذكر شيخ الاسلام ابن تيمية رحمه الله أن هناك واسطة من أثبتها كفر وواسطة من أنكرها كفر، كيف ذلك؟!
الواسطة التي من أثبتها كفر هي أن يجعل العبد بينه وبين الله وسطاء وشفعاء في الدعاء والعبادة، والواسطة التي من أنكرها كفر هي واسطة الرسل التي هي بين الله وعباده في تبليغ الرسالة.
قال المصنف رحمه الله: والشفاعة شفاعتان.
الشفاعة مأخوذة من الشفع وضده الوتر بأن تجعل الوتر شفعاً، أي تجعل الواحد اثنين وتجعل الثلاثة أربعة وهكذا هذا من حيث اللغة، أما من حيث الاصطلاح الشفاعة هي التوسط للغير بجلب منفعة أو دفع مضرة.
وقسم المصنف رحمه الله الشفاعة إلى قسمين شفاعةٌ منفية وشفاعة مثبتة.
أولاً: الشفاعة المنفية هي الشفاعة التي نفاها الله تعالى في كتابه، وهي شفاعة الكفار الذين اتخذوا من دون الله شفعاء ووسطاء، فهذه الشفاعة شفاعةٌ باطلة.
قال المصنف رحمه الله والشفاعة المنفية ما كانت تطلب من غير الله فيما لا يقدر عليه إلا الله، يعني كطلب الرزق أو الولد أو طلب الشفاء أو الغيث إلى آخره، فهذه الأمور لا يقدر عليها إلا الله، فلهذا لا تطلب إلا من الله تعالى.
الطلب من المخلوق لابد أن يكون المخلوق حياً حاضراً قادراً، كأن تقول لشخص مثلاً أعطني المفتاح وهذا الشخص حي حاضر وقادر، أما أن تدعو الميت أو الغائب أو الحي فيما لا يقدر عليه كطلب الولد أو الشفاء إلى آخره كل ذلك لا يجوز، لابد أن يكون المخلوق حياً لا ميتاً حاضراً لا غائباً قادراً.
ثم ذكر المصنف رحمه الله الدليل على بطلان هذه الشفاعة، ذكر قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا أنفقوا مما رزقناكم من قبل أن يأتي يومٌ لا بيعٌ فيه ولا خلة ولا شفاعة والكافرون هم الظالمون).
ثم ذكر المصنف رحمه الله القسم الثاني في الشفاعة وهي الشفاعة المثبتة التي أثبتها الله تعالى في كتابه وهي شفاعةٌ صحيحة وهي التي تطلب من الله؛ لأن الله تعالى هو الذي يملك الشفاعة، يقول الله تعالى (قل لله الشفاعة جميعاً) بيّن الله تعالى في الآية التي قبلها أن المعبودات لا تملك شيئاً فضلاً أن تملك الشفاعة فقال: (أم اتخذوا من دون الله شفعاء قل أو لو كانوا لا يملكون شيئاً ولا يعقلون) فقصر جل وعلا الشفاعة على نفسه فقال (قل لله الشفاعة جميعاً) فالشفاعة تطلب ممن يملك، ولهذا قال بعد ذلك: (له ملك السماوات والأرض ثم إليه ترجعون).
ثم قال المصنف: والشافع مُكَرَّمٌ بالشفاعة، أي أن الله يُكْرِمُ الشافع بالشفاعة، وهي فضيلةٌ وإكرامٌ للشافع كشفاعة النبي ﷺ للخلق في عرصات القيامة، وهذه الشفاعة هي المقام المحمود الذي وعد الله عز وجل نبيه ﷺ، ففي هذه الشفاعة بيانٌ لفضله ﷺ وتكريمٌ له من بين سائر الخلق.
ثم قال المصنف رحمه الله والمشفوع له من رضي الله قوله وعمله، فالشافع لا يشفع إلا بعد أن يرضى الله تعالى عنه، لقوله تعالى: (يومئذٍ لا تنفع الشفاعة إلا من أذن له الرحمن ورضي له قولا) فلابد أن يكون الشافع من أهل التوحيد، قد رضي الله عز وجل دينه وإسلامه وإيمانه، وكذلك لابد أن يرضى الله تعالى عن المشفوع وأن يكون من أهل التوحيد، لابد أن يرضى الله تعالى قوله وعمله لقوله جل وعلا: (ولا يشفعون إلا لمن ارتضى) أي أن الشفاعة لا يستحقها إلا لمن رضي الله عز وجل دينه وإسلامه وإيمانه، أما المشركون فلا يرضى الله عز وجل قولهم ولا عملهم؛ لأجل شركهم ولأجل كفرهم، قال الله تعالى: (فما تنفعهم شفاعة الشافعين) وقال: (وما للظالمين من حميمٍ ولا شفيعٍ يطاع)
قال المصنف بعد الإذن يعني لا بد من الإذن أي أن الله عز وجل يأذن للشافع بأن يشفع للمشفوع، وذكر المصنف الدليل على الإذن قوله تعالى: (من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه) أي لا أحد يشفع عند الله إلا بإذنه جل وعلا؛ لأن الشفاعة بيده سبحانه وتعالى.
إذاً الشفاعة لها ثلاثة شروط:
أولاً: رضا الله عن الشافع، والدليل قوله تعالى: (يومئذٍ لا تنفع الشفاعة إلا لمن أذن له الرحمن).
وثانياً: رضى الله عن المشفوع، الدليل قوله تعالى: (ولا يشفعون إلا لمن ارتضى).
ثالثاً: إذن الله للشافع بأن يشفع للمشفوع، والدليل قوله تعالى: (من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه).
فالآية التي تضمنت شرطاً واحداً قوله تعالى: (ولا يشفعون إلا لمن ارتضى) تضمنت رضا الله عن المشفوع.
وكذلك قوله تعالى: (من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه) تضمنت هذه الآية أيضا شرطا واحداً وهو الإذن للشافع بأن يشفع للمشفوع.
والآية التي تضمنت شرطين قوله تعالى: (يومئذٍ لا تنفع الشفاعة إلا لمن أذن له الرحمن) هذا هو الشرط الأول الإذن بالشفاعة، ثم قال: (ورضي له قولا) هذا هو الشرط الثاني وهو رضا الله عن الشافع.
إذاً هذه الآية تضمنت شرطين رضا الله عن الشافع والإذن.
وفي آية النجم اجتمعت الشروط الثلاثة، قال الله تعالى: (وكم من ملكٍ في السماوات. لا تغني شفاعتهم شيئاً إلا من بعد أن يأذن الله لمن يشاء) هذا هو الإذن للشافع ثم قال بعد ذلك (ويرضى) أطلق هنا الرضا، فيشمل الرضا عن الشافع وعن المشفوع.
والشفاعة المثبتة تنقسم إلى قسمين: شفاعةٌ خاصة وشفاعةٌ عامة.
فالشفاعة الخاصة: هي التي تخص النبي ﷺ، ومن الشفاعة الخاصة شفاعته ﷺ في الموقف وهي الشفاعة العظمى، وهي أهم هذه الشفاعات الخاصة بالنبي ﷺ، هذه الشفاعة لإزالة الكروب؛ لأن الشفاعة توسل للغير إما بجلب منفعة أو دفع مضرة، فالشفاعة العظمى تكون لدفع مضرة.
أما الشفاعة التي تكون لجلب منفعة، هي عند فتح باب الجنة، فيفتح باب الجنة أولاً للنبي ﷺ لا يفتح لأحد قبله، فالنبي ﷺ أول من يدخل الجنة ثم يؤذن للمؤمنين بالدخول.
وهناك أيضاً شفاعة خاصة بالنبي ﷺ وهي شفاعته في عمه أبي طالب، دعا النبي ﷺ عمه أبا طالب للإسلام، لكنه أبى أن يقول لا إله إلا الله، وآخر ما كلمهم قال على ملة عبد المطلب، لكن لأجل أنه كان يدافع عن النبي ﷺ شفع له النبي ﷺ، وهذه الشفاعة مستثناة من قول الله عز وجل: (فما تنفعهم شفاعة الشافعين)، فلا أحد يخفف عنه العذاب إلا أبا طالب أدركته شفاعة النبي ﷺ؛ كان في غمرات من النار فأصبح بشفاعته في ضحضاح من النار مع أنه يرى أنه من أشد الناس عذاباً يوم القيامة، لكنه في حقيقة الأمر هو من أهون الناس عذاباً يوم القيامة.
وهناك شفاعةٌ يشترك فيها النبي ﷺ مع غيره من النبيين والمؤمنين، وهذه الشفاعة هي الشفاعة العام، وهي أنواع:
أولاً: الشفاعة فيمن استحق النار بأن لا يدخلها.
ثانياً: الشفاعة لمن كان في النار من أهل التوحيد بأن يخرج منها.
ثالثاً: الشفاعة بدخول الجنة من غير حسابٍ ولا عذاب.
رابعاً: الشفاعة في رفع درجات المؤمنين.
نكتفي بهذا وبارك الله فيكم، وصلى الله على نبينا وعلى آله وصحبه وسلم
أحسن الله إليكم شيخنا وبارك فيكم وفي علمكم، وأسأل الله أن يوفق الجميع، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
يوم السبت
🌙2 جمادى الآخرة 1442هـ
الموافق ☀️2021/1/16 م ولا تنسونا من صالح دعائكم
جميع الحقوق محفوظة لموقع فضيلة الشيخ يعقوب البنا - حفظه الله
ﺑﺮﻣﺠﺔ: ﻓﺎﺋﻖ ﻧﺴﻴﻢ